الحكمة الخالصة ذروة العلم الروحاني :
الحكمة تقول : تسمو النار فوق التراب و تسمو الروح فوق العقل و الجسد ، ليس بالقهر و العنف ، لكن بالحكمة و البصيرة ، من هنا نستنتج أن الروح أعلى مرتبة من العقل و من الجسم (المادة) البالي لا محالة ، اذن فالعلم الحقيقي الذي يلامس الحقيقة هو العلم الروحي أو الروحاني ، و هذا هو العلم الوحيد الذي يرسخ ايمان الانسان بربه على عكس العلوم المادية التي يجب أن تخضع كل شيء للتجربة ، و لا ايمان فيه سوى بالملموس .
سنتكلم في موضوع اليوم عن العلم الروحاني أو الروحانيات كما يسميه الكثيرون و ارتباطه الوثيق بالصوفية من المسلمين، و ذلك بطريقة مبسطة حتى يفهمه الجميع.
ما هو العلم الروحاني؟
العلم الروحاني أو الروحانيات هو قمة الادراك و تحرير الروح لتتخطى مجال الموجودات المادية البالية لتقتحم عالم الملكوت و تلامس الحقيقة الرائعة ، و تطلع على حقيقة الأشياء و تحس بالعوالم الخفية الموازية و تذهب بذلك الى ما وراء الأشياء.
كما نستطيع القول بأن العلم الروحاني هو الحكمة الخالصة ، التي تجعل الانسان يعرف حقيقة هذا العالم الذي يعيش فيه محصورا في جسده ، مؤمنا بقدرة الله الواحد الأحد الذي تفنن في ايجاد كل الموجودات من أجل سعادته ، و ليتيقن في الأخير بأنه أروع مخلوق قد صنعته يد القدير و رسمت كل المعالم الموجودة أمامه من أجل سعادته في الدنيا .
و يصبح كذلك على يقين بأن هذه الموجودات كلها زائلة لا محالة في يوم من الايام ،لتعود كل الارواح الى عالمها الحقيقي لتكمل مسيرتها الابدية في حضرة موجدها سبحانه و تعالى .
متى ظهر العلم الروحاني :
العلم الروحاني موجود منذ أن وطأت قدم أول انسان لهذا العالم ، و لكنه كان متباينا في الكثير من الفترات ، فأبونا النبي آدم عليه السلام قد تعلم كل شيء من نفخة واحدة من الله سبحانه و تعالى ، و عاش فوق هذه الارض عارفا و مدركا لكل ما حوله بالرغم من أنه أول من وطأتها و بالرغم من وحشتها .
العلم الروحاني في مراحل زمنية :
مرت فترات زمنية بلغ فيها العلم الروحاني أوجه ليصل بالعلوم الاخرى الى أبعد الحدود ، و من أقوى هذه الفترات سنذكر مرحلتين زمنيتين :
مرحلة مصر القديمة :
كل الآثار و الشواهد التي نراها اليوم على أرض مصر تدل على نهضة علمية عظيمة قد مرت بتلك المنطقة من الارض ، و لكن الكثير منا يجهل السبب الاساسي في قيام تلك النهضة العلمية و وصولها الى أعلى المستويات.
أكد كثير من الباحثون في هذا المجال بأن الحضارة المصرية القديمة قد وصلت الى ذلك المستوى من الرقي و العلوم استنادا على العلم الروحاني (الحكمة الخالصة) و قد ربطوها بنبي الله ادريس عليه السلام و أجزموا بأنه هو باني الاهرامات الموجودة في الجيزة .
أطلق المصريون القدامي اسم تحوتي على ادريس عليه السلام و سموه سفير الآلهة ، و أشاروا اليه في مخطوطاتهم و جدارياتهم بالطائر أبو منجل ، و هو مقدس عندهم .
و هناك كتاب بعنوان حكمة الفراعنة المفقودة من تأليف الثنائي الانجليزي :ثيموثي فريك و بيتر غاندي و قد قام بترجمته الى العربية الدكتور عمر الفاروق عمر . و يعتبر كتابا رائعا في هذا المجال.
فعندما تلامس الحكمة هذا الانساء ليفهم حقيقة الموجودات ، فان كل العلوم المادية الأخرى تتضح معالمها أمامه بسهولة لأنه فهم كل الأسباب و المسببات.
مرحلة ظهور الاسلام :
كان العرب في شبه الجزيرة العربية يعيشون حياتا ليس لها أي قيمة ، كما كانوا لا يساوون شيئا بين أسياد الأرض في ذلك الزمان ، تقتصر حياتهم على رعي الابل و الاغنام و الاستفادة من عائدات تجارة الحجيج الذين يقصدون البيت العتيق .
و فجأة ظهر بينهم محمد صلى الله عليه و سلم خاتم الانبياء و المرسلين ، لتنقلب حالهم من حال الى حال ، ففي البداية لم يؤمن به الا قلة و قد تعرضوا خلال بدايات الرسالة الى شتى أنواع المقاومة ، هذا طبعا من طرف العشيرة و الأقربين في انتظار ما سيجدونه من غير العرب عندما تتوسع رقعة الرسالة ،و ليس هذا هو المهم هنا .
لان المهم هو : كيف استطاع نبينا محمد عليه الصلاة و السلام في ظرف وجيز خلال عقدين من الزمن أو يزيد قليلا ، بان يؤسس دولة واسعة الأركان تخشاها كل القوى المحيطة بها ؟
الاجابة بكل بساطة : بأن محمد عليه الصلاة و السلام استطاع أن يلمس الأرواح و ينور العقول لتدرك الحقيقة .
هذا بغض النظر عن المستويات التي بلغتها العلوم في الاندلس على أيدي المسلمين.
الصوفية و الروحانيات :
لقد تم هزم الاسلام يوم تم تجريده من الفلسفة و التصوف ليصبح بذلك مجرد اسم أو شعار لا أكثر ، فالتصوف الحقيقي هو الزهد عن ملذات الدنيا الزائلة و ترك ما لا ينفع في الحياة الخالدة ، و تحرير الروح المن قيود الشهوات و الملذات لتتحرر و تبدأ رحلتها في وعي الحقيقة ، فالخلوات و الصيام و الأوراد و الاذكار كلها تصب في هذا المصب .
لكن للأسف فهناك حملة شرسة تدور ضد الصوفية و المتصوفين لتشويه صورتهم في عقول العامة ، فالصوفية بريئة من التقرب و التمسح و استعمال الوسيلة أو الواسطة و الذبح لغير الله ، و كثير من الطقوس الاخرى المضحكة، ما عدا التبرك أو طلب البركة فهو حقيقة لا غبار عليهه .
نأخذ مثلا المؤلفات الفقهية على مر عمر الاسلام ، فلن ترتاح و تقنع بكتاب الا اذا كان مؤلفه صوفيا من أصحاب الطرقية ، أما دون ذلك فستجد فيه خلطا كثيرا و لا يلامس لبك أبدا . هذا دون أن ننكر بأن جهابذة الفقه و الفتوى كلهم ينتمون الى طرق صوفية.
كيف تتعلم العلم الروحاني؟
مخطيء من يقول: أريد أن أتعلم العلم الروحاني ، لان هذا العلم ليس له قواعد أو دروس معينة ، و انما يجب القول : أريد أن ألج هذا العلم ، و ان كنت نقي القلب و السريرة و روحك متسامحة و محبة للخير ، فستجد من يرشدك الى الطريق و يخبرك بالاسباب التي يجب عليك اتخاذها ليفيض عليك هذا العلم ، فالعلم الروحاني يفيض فيضا على الروح الطاهرة ان تشبعت بالتقوى و لزمت ذكر الله سبحانه و تعالى .
و شيوخ الزوايا هم أكثر الناس دراية بهذا الامر ، فهم وحدهم من يميزون المستعدين لولوج عالم الروحانيات ، و هم وحدهم من يفرقون بين السالك و المجذوب ، و الطالب و المرغوب.
فالسالك هو من يسلك طريق هذا العلم بنية الوصول الى الحقيقة ، أما المجذوب فهو أحد أعمدة هذا العلم بطبعه لكنه لا يعلم ذلك.
ما علاقة الجن بالعلم الروحاني؟
لا علاقة اطلاقا للجن أو الشياطين بالعلم الروحاني أو الروحانيات ، لأن كل ما يقوم به السالك في هذا الدرب من خلوات و أذكار هو بنية تهذيب الروح البشرية و سقلها ، و ليس بنية التقرب للجن أو الشياطين كما يعتقد البعض . و هنا يجب التفريق بين الروحاني و الساحر أو الدجال.
كما أن هناك اشكالا و التباسا وقع فيه الكثيرون لتتغير وجهتهم خلال هذا الطريق ليخسروا الدنيا و الآخرة في الاخير. فالانسان عندما ينطلق في هذه الطريق و تبدأ روحه في التحرر من شهوات الموجودات شيئا فشيئا ، هنا يأتي دور الارواح الشريرة من الشياطين لتغويه ، فتتصل به على أساس أنها أرواح خيرة و بان الله قد اصطفاه و بأنه قد بلغ أعلى مراتب الايمان و حب الله ، لذلك يعرضون عليه خدماتهم ليحققوا له الكثير من الخوارق التي تظهر على يديه.
فان تجنبهم و واصل طريقه فقد نجح و ان توقف عندهم و واصل حياته بما أملوه عليه فقد خسر.
الخلاصة :
العلم الروحاني او الروحانيات ، هو طريق يسلكه المسلم من أجل بلوغ أعلى درجات الادراك و هدفه الاول و الاخير هو ادراك عظمة الخالق سبحانه و تعالى و هوان كل المخلوقات أمام هذه العظمة و بذلك تنكشف أمامه كل الأسرار لتنفتح بصيرته و يلمس الحقيقة ، فتهدأ النفس و يذهب الشك و تدوم السعادة و الطمأنينة خلال مرحلة العمر في شوق دائم للقاء الخالق في كل لحظة خلاله.
و على هذا فقد راح أتباع الشيطان يشوهون صورة الروحانية و الروحانيين أمام الناس ، و حرمها مشايخهم الذين نصبوهم أئمة على المسلمين .
أخي الزائر ان أعجبك المقال فضلا منك لا أمر شاركه على صفحتك ليقرأه غيرك ، كما ننتظر تقييمك له في تعليق ، حتى نستمر في طرح المواضيع ، أستودعك الله و الى اللقاء في موضوع قادم.
حقيقة لا غبار عليها.
ردحذف